فى البدء كان «رأفت الهجان»، استقر فى «إسرائيل» بهوية جديدة، واسم جديد «جاك بيتون»، وصار منزله قِبلة لقادة «الدولة» ونخبة تل أبيب. وكان من الطبيعى أن تحاول المخابرات المصرية إعادة إنتاج هذا النجاح العريض. فتل أبيب مدينة تعشق «المهاجرين الجدد»، والهجان حقق نجاحا فاق كل التوقعات. لكن عملية اليوم التالى كانت أكثر طموحا، لذلك تطلبت شابا مصريا ذكيا.. ومغامرا، لا يقبل فقط بفكرة زرعه فى إسرائيل، ولكن يقبل بتجربة التجنيد فى «الجيش الإسرائيلى»، على أن يضع نصب عينيه الانضمام لوحدة القوات الخاصة، أو سلاح الاستخبارات الحربية. ساعتها ستكون ضربة فى الصميم.
لم يكن المطلوب أن يقضى جل عمره داخل «الجيش».. العملية محدودة الوقت.. والأهداف. مدة التجنيد ثلاث سنوات. يكفى سنة واحدة، ينخرط فيها الشاب المصرى فى تكوينات جيش الاحتلال.. يخوض التجربة بنفسه، يضع قدميه على أول الطريق، مكتب التجنيد (ليشكات جِيِّوس- بالعبرية)، ثم وحدة المستجدين، يتلمس مشاعر الجنود عن قرب، يتعامل مع الدبابات ومكوناتها بنفسه، يلقى بجسده داخل السيارات المدرعة. يسجل بعدسة الكاميرا التى لا تفارقه كل ما يراه.. وهكذا كان رأفت الهجان فى البدء. و«كابورك يعقوبيان» فى اليوم التالى حين صعد على ظهر السفينة «يَمِيت» التى نقلته لـ«إسرائيل»، ليبدأ واحدة من أخطر عمليات المخابرات المصرية فى العمق الإسرائيلى.
جاسوسنا فى «جيش الاحتلال الإسرائيلى» إسحق كاوتشوك، ولد فى مصر باسم «كابورك يعقوبيان»، مصرى أرمنى الأصل، ابن بلد، بمصطلحات أواخر الثلاثينيات، وأوائل الأربعينيات. حصل على الابتدائية بتفوق، ثم البكالوريا.. وبات على أبواب الجامعة فى مجتمع «كوزموبوليتانى» يفيض بجاليات أجنبية تعشق مصر. فى عيد ميلاده العشرين، توفى والده، وتحمل عبء إعالة أمه الفقيرة. قرر الشاب الوسيم «كابورك» تحويل هوايته إلى مهنة واحتراف. احتضن كاميرته وتجول فى الحدائق يلتقط الصور للعشاق، وأبناء الطبقة الوسطى. كان العمل شاقا، والرزق شحيحا، وكابورك يحب الحياة، ويقبل على ملذاتها.. خلب عقول من حوله بوسامته، ولغته العربية المكسرة. عانى ماديا، فتورط فى عمليات نصب مخلوطة بخفة دم «المحتال الأرمنى». فجأة وجد نفسه يقضى عقوبة ثلاثة أشهر حبسا فى أحد السجون المصرية. لكن فى ديسمبر 1959، بعد مُضى ثلاثين يوما فى السجن، طرق باب زنزانته الانفرادية رجل أربعينى.. يعرض عليه صفقة: «عفا الله عما سلف، ونؤمن مستقبلك، ومستقبل أسرتك مقابل العمل لصالح المخابرات العامة المصرية». وافق «يعقوبيان» فورا، وبلا تردد، فقد اشتاق للحرية.
كان «يعقوبيان» شخصا نموذجيا بالنسبة لأى ضابط تشغيل يبحث عن عميل لزرعه فى «مجتمع هجرة». لديه موهبة طبيعية فى تعلم اللغات، قبل أن يتم الثانية والعشرين من عمره أتقن الإنجليزية، والفرنسية، والعربية، والإسبانية، والتركية. قصير القامة، (1.65 سم)، نحيف، عريض الوجه.. شعره بنى وعيناه صافيتان باللون نفسه. استغرق إعداده عاما كاملا، فى منزل آمن بالقاهرة. دربه الخبراء على أساليب العمل السرى، والتخلص من المراقبة، واستعمال الحبر السرى، وتصغير الصور، وجمع المعلومات، وتحليلها. لكن الجهد الأكبر تركز على تأهيله لتقمص شخصية يهودى مصرى، وما كان سهلا مع «رفعت الجمال» المصرى المسلم، كان مرهقا بالنسبة لـ«يعقوبيان» المصرى الأرمنى. فكان من الضرورى إخضاعه لعملية ختان، فى أحد مستشفيات القاهرة. فاليهود يختنون ذكورهم بعد مرور سبعة أيام على مولدهم.. وهو طقس يحرصون على تنفيذه حتى لو وافق يوم السبت الذى يحظر على اليهودى القيام بأى عمل فيه. فالختان فى اليهودية هو دليل الولاء لعقيدة «إسرائيل».
وقامت خطة زرع يعقوبيان فى إسرائيل على فكرة السهل الممتنع، كان من المقرر أن يتقمص شخصية يهودى متدين حتى يكتسب ثقة من سيحيطون به فى «إسرائيل» بسرعة، ويحظى باحترامهم. ولمعت فكرة تدريبه على يدى يهودى مصرى، لكن كيف تضمن المخابرات المصرية ولاء يهودى مصرى فى هذه الفترة التى نشطت فيها الحركة الصهيونية فى القاهرة!! وصار الحل الوحيد أن يتعلم «يعقوبيان» بنفسه كل ما يتصل باليهودية. يتردد أولا على المعبد اليهودى فى شارع عدلى «بوابة السماء». يلتقط العادات والتقاليد والطقوس الدينية اليهودية، ويمارسها، يشارك فى الأعياد والصلوات، ويعيش نمط الحياة اليهودية 24 ساعة يوميا. ويقضى الليل فى قراءة كتب وصحف عن «إسرائيل». وفى تلك الأثناء كان الخبراء المصريون قد أوشكوا على الانتهاء من إعداد الأوراق والوثائق اللازمة فى مهمته الجديدة.
طبقا للخطة الموضوعة، كان على «يعقوبيان» أن يقدم نفسه بوصفه ابنا لعائلة يهودية تركية لجأت إلى القاهرة من اليونان. كُتب فى أوراقه أنه من مواليد سالونيكا، عام 1935، ويدعى «إسحق كاوتشوك». مرت أسرته بظروف عصيبة فى موطنها الأصلى، بعد أن هجر الأب زوجته وابنه، إلى مكان غير معلوم. فقررت الأم الهجرة بصحبة ابنها إلى مصر، وتوفيت، ودفنت فى مقابر اليهود بالبساتين. ولتأكيد القصة كان «المصوراتى يعقوبيان» يسحب من جيب سترته صورة قبر أمه ويبكى كثيرا متأثرا بلوعة الفراق، حتى يُبكى من حوله!! وزيادة فى الاطمئنان حمل «يعقوبيان» فى جيب سترته أوراق هوية صادرة عن الطائفة اليهودية بالقاهرة. زودته بها الوحدة الفنية التابعة للمخابرات، ورغم دقة التزييف وإتقانه، حمل «كاوتشوك» صورة ضوئية للوثائق حتى يصبح كشف الأختام المزورة ضربا من المستحيلات.
وبعد مرور تسعة أشهر، وفى خريف 1960، حصل «إسحق كاوتشوك» على «شهادة لاجئ» من وكالة اللاجئين التابعة للأمم المتحدة. حملها، وتوجه إلى قنصلية البرازيل، طالباً تصريح هجرة. وكان اختيار المخابرات المصرية للبرازيل كـ«دولة معبر» فى منتهى الذكاء. بعد أن شددت الحكومة المصرية القيود على هجرة اليهود إلى أوروبا اعتبارا من1960، وبدت الهجرة من مصر إلى البرازيل مقنعة وأكثر منطقية. وفى مارس 1961 سافر «يعقوبيان» بحراً بهويته الجديدة من الإسكندرية إلى ميناء جنوا بإيطاليا، ثم صعد إلى السفينة الإسبانية (كافاسان روكى) المبحرة إلى البرازيل.
وعلى متن السفينة التقى «يعقوبيان» مع «إيلى أرجمان»، شاب «إسرائيلى»، فى الثلاثين من عمره، من كيبوتس «بارور حيال» غرب النقب. كان متجها برفقة زوجته وابنتيه إلى البرازيل فى زيارة عائلية. «أرجمان» شاب رومانسى، يعيش حياة جماعية فى «الكيبوتس»، وبرغم تفاخره بأنه علمانى، إلا أن بداخله يهوديا عميق التدين. انبهر فورا بـ«إسحق كاوتشوك» الهارب من القاهرة.. وبدا له أن «كاوتشوك» تجسيد حى لخروج بنى إسرائيل من مصر فى العصور القديمة!! وأن بقاءه فى البرازيل هو فترة التيه التى يجب أن تنتهى بأسرع ما يمكن!! وزاد تعاطفه، عندما بدأ «يعقوبيان» يبكى اليتم، وأمه المتوفاة، وكونه «مقطوعا من شجرة»، تعرض للاضطهاد والتعذيب فى مصر.
وسرعان ما نشأت علاقة حميمة بين «اللاجئ اليهودى» والأسرة «الإسرائيلية». لم يفترقوا طوال الرحلة التى امتدت أسبوعين فى عرض البحر، يأكلان معا، يشربان معا، يسهران. توطدت العلاقة، فمد «يعقوبيان» يده فى الحقيبة وأخرج ألبوم الصور، ليرى «أرجمان» صورة لقبر أمه. وانخرط الشاب «الإسرائيلى» فى بكاء شديد.. وهنا تأكد «كاوتشوك» أن هويته الجديدة وقصته المحبوكة تعملان كدقات ساعة سويسرية.. ولم يتبق سوى تحديد ساعة الصفر.
وبدأ «أرجمان» يعرض خدماته مخلصا، وأدرك كاوتشوك أن لقاء الصدفة الذى جمعه مع «أرجمان» يبشّر بأن الحظ حليفه، وأن فرصه فى الوصول إلى «إسرائيل»، دون أن يشتبه به ضباط «الشاباك» جيدة للغاية.. لم يطلب «كاوتشوك» من عائلة «أرجمان» مرافقتهم إلى تل أبيب، بل أكد رغبته فى الاستقرار بأمريكا اللاتينية، وتوقع أن «أرجمان» سيدعوه للهجرة إن آجلا أم عاجلا، وصدق حدسه، لكن المفارقة أن الشاب «الإسرائيلى» انتهز فرصة احتفال اليهود على متن السفينة بالعيد الثالث عشر لقيام «إسرائيل»، وأخذ يلحّ على الجاسوس المصرى بانفعال وحماس شديد لكى يسافر معه إلى «إسرائيل»، وظل «صاحبنا» يتمنّع، ويتهرب من الموافقة!!
فور الوصول إلى البرازيل ودعت أسرة «أرجمان» صديقها الجديد بانفعال بالغ. واستمرت اللقاءات بينهم طوال الشهرين اللذين مكثت فيهما عائلة «أرجمان» فى «ريو دى جانيرو». أخذ «أرجمان» يحكى للشاب اليهودى النازح من مصر، الذى أطلق عليه سيدنا موسى (موشيه ربينو) عن تاريخ الصهيونية.. والاستيطان اليهودى فى فلسطين.. واحتياج «إسرائيل» لسواعد الشباب. وبين حكاية وأخرى يلمح له ويشجعه على الهجرة. ثم عرض عليه تعريفه بمسؤولى الوكالة اليهودية، ليشرحوا له حقوقه كمواطن وفرص نجاحه كـ«مهاجر». تظاهر «يعقوبيان» بالتردد، حتى استجاب فى النهاية تحت الضغط والإلحاح. وبعد شهرين فى البرازيل حانت ساعة الفراق التى تذكرها «أرجمان» فى التحقيقات جيدا. «كانت لحظة صعبة للغاية، سيطرت على، وعلىّ أسرتى، مشاعر حزن عميق. جاء لتوديعنا فى الميناء، اشترى هدايا لابنتى.. ولم نتركه حتى وعدنا بأنه سيحضر لـ«إسرائيل»، إن لم تكن هجرة دائمة، فعلى الأقل زيارة طويلة.
بعد سفر عائلة «أرجمان»، التقى «يعقوبيان» بسالم عزيز السعيد، الذى عرف فى «ريودى جانيرو» بأنه الملحق التجارى المصرى، لكنه فى الحقيقة كان ضابط المخابرات بالسفارة. وبناء على تعليماته انتقل «يعقوبيان» للإقامة فى «سان باولو»، وهناك قام بخطوة مهمة. حصل من السلطات المحلية على بطاقة برازيلية سليمة، تفيد خانة الديانة فيها بأنه «يهودى»، وبعد نجاحه عاد إلى العاصمة والتحق بالعمل فى استديو تصوير.
وفى نهاية 1961، توجه «كاوتشوك» إلى الوكالة اليهودية.. قدم طلب «هجرة».. لم تستغرق الإجراءات وقتا طويلا. وأبحر «كاوتشوك» من البرازيل إلى جنوا، حيث التقى مع ضابط تجنيده الذى وصل خصيصا من القاهرة، وحضر المقابلة سالم السعيد. لقّنوه التعليمات والأوامر الأخيرة.. وراجعوا معه الخطوات التى سيقوم بها فى «إسرائيل» لتثبيت وضعه. أكدوا عليه أن يعمل ببطء، وبالتدريج، وأن يندمج فى المجتمع أولا، ولا يبدأ مهامه قبل تلقى الأوامر. كانت الخطة واضحة ومحكمة.. «يعقوبيان» سيصل إلى «إسرائيل» وهو فى سن التجنيد، سيتم ضمه «للجيش الإسرائيلى»، ولذلك كانت التعليمات الأخيرة فى «جنوا» تؤكد أفضلية الانضمام للقوات الخاصة، أو شعبة الاستخبارات الحربية التى قد تفضله لأنه يجيد العربية، أو سلاح المدرعات.
منتصف ديسمبر 1961، بدأت السفينة «يَمِيت» تبحر من جنوا، إلى ميناء حيفا، وعلى متنها «إسحق كاوتشوك» البالغ من العمر 24 عاما، لكن أوراقه تفيد بأنه فى الـ 27. أنهى «يعقوبيان» إجراءات الخروج من الميناء سريعا، وبدأت رحلة البحث عن أقرب هاتف، اتصل بصديقه.. «إيلى أرجمان». كان اللقاء بينهما فى «الكيبوتس» (مستعمرة تعاونية) مشحونا بالعواطف، كأنهما صديقان منذ الطفولة. اقترح «أرجمان» استضافته فى «الكيبوتس». وألحّ عليه، إنك: وحيد، بلا أقارب، أو أصدقاء هنا، فوافق على العرض. وبناء على توصيات «أرجمان» رتبت له «الوكالة اليهودية» حجرة معيشة مشتركة، ومدرسة لتعلم العبرية، فى كيبوتس «دوروت» المجاور. لكن «كاوتشوك» لم يستمر طويلا، اشتكى من كونه لا يستطيع أن ينام مع شخص لا يعرفه فى نفس الغرفة. طلب الانتقال إلى مقر سكن آخر لكن فى نفس المنطقة.. وكان الهدف تنفيذ خطة المخابرات المصرية.. التى أكدت على أن يبقى بالقرب من قطاع غزة. حتى يتمكنوا من تخليصه فى أوقات الطوارئ. كما أن هذا القرب الجغرافى يسهل نقل الرسائل بسرعة كبيرة نسبياً، بعد أن تم تحديد نقاط الإرسال على الحدود بين «إسرائيل» والقطاع.
وهنا تدخل «إيلى أرجمان» مجددا، استخدم نفوذه لدى الوكالة حتى عثروا لـ«يعقوبيان» على مسكن ومدرسة فى كيبوتس «نجفا». ونجح «يعقوبيان» بدوره فى اكتساب ثقة كل من حوله، حتى إن سكرتير الكيبوتس «تسيفى لوفلينير» يقول إنه: «كان يعمل بإخلاص، وكان يدرس العبرية فى الصباح الباكر، ثم يقضى بقية النهار فى العمل بالمزرعة الجماعية». وصار محبوبا من كل زملائه فى المستعمرة، الذين أشفقوا عليه بعد أن انتشرت قصة يتمه، ووفاة أمه. وساعده فى الاندماج إتقانه خمس لغات حية، زادوا بعد تكليفه بالمهمة إلى سبع حيث أتقن البرتغالية فى البرازيل، والعبرية تعلمها فى مصر، لكنه لم يعترف بذلك أبدا. «يهوديت هارئيل» مدرسته فى معهد تعليم العبرية كانت تظنه عازفا عن التعليم، وكل همه تصوير بنات الكيبوتس بكاميرته. وكانت كاميرا متطورة للغاية، بمعايير هذه الفترة. حمل مستلزماتها، وعدساتها، دائما فى حقيبته. وإلى جوارها صور مهزوزة، تخلق انطباعا بأنه مصور هاوٍ، وليس مصورا محترفا.
فى «الكيبوتس» الجديد، وقعت فى غرامه فتاة فى الـ 17 من عمرها، مات عنها أبوها فى إحدى هجمات الجيش المصرى على القوات الصهيونية عام 48. واعترض أفراد عائلتها على هذه العلاقة، حتى عندما أعلنا رغبتهما فى الاقتران. وفى عام 1962، فاتحه المسؤولون فى «الكيبوتس» بخصوص مستقبله، فى البداية أخبرهم بأنه يفكر فى عضوية الكيبوتس، ثم أوضح أنه ينوى فتح أستديو، وفى النهاية حصد إعجابهم بقرار التجنيد فى صفوف الجيش.
قبل الانخراط فى الجيش، توجه «كاوتشوك» إلى الوكالة اليهودية وطلب معونة مالية للحصول على سكن، فقدمت له الوكالة 30 ليرة، ووجهته لشركة «عميدار» الإسكان، حيث وقع عقد إيجار شقة مشتركة مع مهاجر يهودى من المغرب. وحصل الاثنان على الشقة رقم 1/689 بمدينة عسقلان، التى لا تبعد عن الحدود مع غزة سوى سبعة كيلومترات، وتفصلها عن القطاع بعض الحقول والتلال الرملية. فى نوفمبر 1962، تجند «كاوتشوك»، واقترحوا عليه فى البداية الانضمام لدورة تأهيل الضباط.
لكن وفقا لنصيحة المخابرات، طلب الانضمام لسلاح المدرعات ولكن لحسن الحظ أصبح عضواً فى سلاح آخر، أنهى دورة التدريب الخاصة بسلاح النقل فى (بيت نبالا) بالقرب من مطار اللد، وهناك واصل هواية التصوير، لم تفارقه الكاميرا. صور الجنود.. الأسلحة.. الدبابات، الطائرات، الصواريخ، السيارات المدرعة، أجهزة الرادار، حتى المبانى والمعدات. كان يصور زملاءه للذكرى، وفى الخلفية آليات الجيش الإسرائيلى، ومدافعه. وفى نهاية التدريب حدث ما لم يكن متوقعا لدى أكثر المتفائلين فى القاهرة. طُلب «يعقوبيان» للعمل سائقاً ومساعدا شخصياً لضابط كبير فى «الجيش الإسرائيلى»، العقيد «شماعيا بيكنيشتاين» أحد قادة «الهاجانا» قبل إعلان «إسرائيل».
ووفرت هذه الوظيفة لـ«يعقوبيان» الذى حظى بثقة رئيسه سريعا، الاطلاع على معلومات سرية، وحساسة للغاية، ساعدت القاهرة كثيرا فى فهم طبيعة العمل والتسليح فى الجيش الإسرائيلى. تمكن من تصوير بن جوريون، وهو يتسلم بنفسه طائرات الميراج الفرنسية فى مطار عسكرى سرى بتل أبيب. وكان طرفا ثالثا فى اللقاءات التى يعقدها العميد بيكنيشتاين مع وزير الدفاع الإسرائيلى موشيه ديان.
وكان الحظ حليفا ليعقوبيان، عندما حصل على مصدر جديد للمعلومات، بعد التحاق صديقته بالجيش، وكانت ثرثارة تزوره دائما فى حجرته. وتبدأ فى حديث لا يتوقف عن وحدتها العسكرية بسلاح المدفعية، وكل ما دار فيها من لقاءات تحضرها بسبب عملها فى مكتب قائد الوحدة. وبعد عام كامل من تدفق المعلومات بدأ النهر ينضب شيئا فشيئا، العقيد «بيكنيشتاين» سيحال للتقاعد قريبا، و«ياعيل» الثرثارة على وشك إنهاء خدمتها العسكرية. وصدر القرار من القاهرة، يُلزم يعقوبيان بإنهاء مهمته فى الجيش، والاستعداد لمهام أخرى داخل المجتمع الإسرائيلى.
التحق «يعقوبيان» بوظيفة مصور فى أستديو «مونى».. أكبر أستديوهات حيفا. وواصل هوايته فى التصوير وكان يتباهى بأن كاميراته تلتقط الصور من مسافات بعيدة. وتطورت وسائل الاتصال بينه وبين المخابرات المصرية فى هذه الفترة، كان يغلق على نفسه باب حجرته، ويدير إبرة الراديو على محطة «صوت العرب «ليلتقط التعليمات التى ترسلها قيادته عبر البث الإذاعى، ونصوص متفق عليها فى نشرات الأخبار.
لكن لا تأتى الرياح دائما بما تشتهى السفن. ففى الـ 19 ديسمبر عام 1963، طرق رجال الشرطة والشاباك باب منزل «كاوتشوك» فى عسقلان، فتح الباب بنفسه.. دفعوه فى صدره بقوة.. اندفعوا داخل الحجرة.. اعتقلوه.. صادروا حقائبه ودولابه الصغير، وكراسة صغيرة مشفرة، وجهاز استقبال مخبأ داخل راديو ترانزستور.
أصيب «يعقوبيان» بدهشة كبيرة، الرجل لم يخطئ خطأ واحدا، لكنه حظه العثر. «إسرائيل» فى ذلك الوقت كانت أسيرة الهواجس الأمنية، يحكمها رجال المخابرات.. ضباط الشاباك والموساد برئاسة «إيسار هارئيل» يتجسسون على المواطنين، يرصدون حتى المزاج السياسى لسكان «الكيبوتسات». وفى ظل هذه الظروف، صدر قرار بمراقبة البريد الصادر من «إسرائيل». ولم تكن المهمة صعبة.. سكان «إسرائيل» لم يتجاوز عددهم فى ذلك الوقت ثلاثة ملايين نسمة، وكانت الرسائل المبعوثة للخارج يتم جمعها فى مكتب البريد المركزى، يفضها عمال البريد. ويؤشرون على ما يثير ارتيابهم للشاباك.
وعلى الرغم من ذلك، كانت هناك فرصة للنجاة، لقد أرسل كاوتشوك أكثر من رسالة إلى الخارج خلال الفترة من أبريل 1962 إلى نوفمبر 1963، وأول رسالة اعترضها الشاباك كانت تشمل تقريراً عن أحد المعسكرات فى منطقة الجنوب، وصوراً للمعسكر من الداخل، وتمكن الشاباك من فك رموزها، وبدأت عملية التتبع، ومن رسالة إلى أخرى اتضح أن العميل المصرى يسكن فى المنطقة الجنوبية، وشيئاً فشيئاً أدرك الشاباك أن العميل يسكن فى عسقلان، التى تمت مراقبتها جيداً وجمع معلومات عن سكان المدينة، إلا أن رجال الأمن لم يتوصلوا لأى معلومات، وفى أحد الأيام، وبالصدفة اصطدم شرطى من أصل مصرى بمهاجر جديد يدعى «إسحق كاوتشوك»، ولم يرتاح له، فأبلغ قائد الشرطة المحلية، الذى أبلغ الشاباك، والتقت المعلومات، وتم إلقاء القبض على كاوتشوك.
واتضح فى التحقيقات أنه كان يتلقى التعليمات عبر جهاز موجود فى غرفته، وأنه زار إيطاليا مرتين التقى خلالهما مسؤولى البعثة الاستخبارية المصرية فى أوروبا.
وتمت محاكمة كاوتشوك فى المحكمة المركزية بالقدس. وأشار النائب العام الإسرائيلى «جدعون حاسيد»، خلال المحاكمة، إلى الأسلوب المتطور الذى اتبعه المصريون فى تشغيل وزرع «يعقوبيان»، وأضاف أن الأضرار التى ألحقها «يعقوبيان» بإسرائيل تنطوى على خطورة بالغة جداً، ولذلك طالب بتوقيع أقصى عقوبة ممكنة.
وبالفعل قبل القضاة المرافعة، وحكموا عليه بالسجن ثمانية عشر عاماً، وفى عام 1965 قدّم يعقوبيان طلباً لاستئناف قضيته، لكن طلبه قوبل بالرفض بضغط من رئيسى الموساد والشاباك، وتم رد الاستئناف من قبل رئيس المحكمة القاضى «يتسحاق أولشين» الذى قال: «لقد تم زرع كاوتشوك من قبل دولة عدوة بعد تخطيط مسبق، وتم تدريبه على تنفيذ أعمال التجسس داخل (إسرائيل) وعمل فى (إسرائيل) لمدة عامين مدعياً أنه يهودى، وتسلل إلى البلاد عبر الخداع والخدمة فى المؤسسات العسكرية، وقدم معلومات عبر الرسائل السرية التى أرسلها للمخابرات المصرية، واعترف لاحقاً بجرائمه». لذلك رفضت المحكمة طلب الاستئناف الذى قدمه.
لكن يعقوبيان لم يبقَ فى السجن طويلاً، ففى التاسع والعشرين من مارس 1966 وخلال ساعات الصباح الباكر تم إخراجه من سجن الرملة المركزى ونقل إلى حاجز إيريز عند حدود قطاع غزة، وتم تسليمه للسلطات المصرية فى الساعة التاسعة صباحاً تحت إشراف رجال الأمم المتحدة، وبصحبته «حسين حسن»، و«مسعد خميس، فدائيان فلسطينيان اعتقلا، وهما فى طريقهما لتنفيذ مهمة، وفى المقابل تسلمت «إسرائيل» ثلاثة من اليهود اجتازوا الحدود المصرية عن طريق الخطأ والثلاثة هم تجار الخضروات: «عوديد مئير»، و«دافيد حانوكا» وابنه «شموئيل» اجتازوا الحدود عام 1965 لشراء البطيخ من غزة، واعتقلتهم دورية تابعة للأمم المتحدة، وسلمتهم للجنود المصريين، واستغلت مصر الفرصة وطالبت إسرائيل بالإفراج عن «كاوتشوك» والفدائيين الفلسطينيين، ورفضت «إسرائيل» فى البداية الصفقة، بحجة أن المصريين يطالبون بالإفراج عن جاسوس وفدائيين كانا ينويان القيام بأعمال تخريبية ضد أهداف «إسرائيلية»، مقابل ثلاثة مدنيين اجتازوا الحدود بطريق الخطأ، لكن فى نهاية الأمر نجح العناد المصرى واستجابت «إسرائيل».
لقد ظلت عملية «كابورك يعقوبيان» بمثابة الصفعة التى تلقاها «الجيش الإسرائيلى» على وجهه، وتركت أثراً لا يمحى، حتى بعد توقيع «اتفاقية السلام»، تدفق الصحفيون «الإسرائيليون» على مصر، وفتشوا القاهرة شارعا شارعا، بحثا عن «يعقوبيان» لإجراء مقابلات صحفية أو تليفزيونية، وباءت جميع محاولاتهم بالفشل، فقد كان «يعقوبيان» يعيش فى هدوء وأمان بعيدا عن متناول الصحفيين الإسرائيليين، وأجهزة الأمن الإسرائيلية التى ظلت سنوات تضعه على قائمة أعداء إسرائيل، المرشحين للتصفية الجسدية فى أسرع وقت ممكن.